لا توجد مرجعية محددة للثقافة حيث أن مقومات امتلاكها ليست بالضرورة أن تكون تحصيلا علميا أو أكاديميا ، إذ أن الكثير من حملة الدرجات العلمية العليا يفتقرون ( دون تجني ) إلى المستوى المقبول من الثقافة ، و كذلك هناك الكثير من حملة الدرجات الدراسية الأولى و قد امتلكوا إكسير الثقافة على أفضل ما تحمله من معان سامية .
إن الثقافة بلا موقف واضح من الحياة تبقى ثقافة ناقصة . لذلك ، فان أهم المرتكزات التي تمنح الإنسان لقب " مثقف " تبقى محصورة بالحد الأدنى من امتلاك المعارف على مختلف تشعباتها ، إذ من المعلوم أن يكون المثقف ملما بقدر من المعلومات ، حيث أن في ذلك إثبات له كونه متابع لفصول الحياة الإنسانية .
إن من أهم مهيئات امتلاك الثقافة لدى الإنسان المثقف هو أن يكون قد قرأ ما لا يقل عن ألف كتاب ذات موضوعات متنوعة و شاملة تتمثل فيها أهم نتاجات الفكر الإنساني و تحديدا النتاجات المقارنة ، إضافة إلى استماع يومي لمواد و برامج الإذاعات و التلفزيون المفيدة ، و بمعدل لا يقل عن مدة عشر سنوات تتخللها قراءة صحيفة واحدة على الأقل كل أسبوع سواء كانت مجلة أو صحيفة أو أي دورية تتميز بغزارة محتوياتها ... ناهيك عن التجربة الذاتية للإنسان في المجتمع التي يمكن أن تكون أفضل منطلق للبناء الذاتي ، إذ بها ومنها يمكن أن يخطو الذات البشرية نحو إنسانيتها و تتبنى المواقف الايجابية ، و ثم يكون لها الدور المنتظر في تربية النفس و فرض رقابة العقل الذاتي عليها .
و لعل من نتائج مثل هذه الشخصية أن عمليات الغزو الثقافي المصدر من الخارج إلى مجتمعات البلدان المستوردة و المتأثرة بالمناخ الثقافي الخارجي لا تؤدي إلى الانحياز الآلي لذلك الغزو الثقافي الوافد من الخارج الذي يحمل السم الزعاف للعقول الطرية في هذه البلدان .
و الواقع أن مقومات الجهود الفردية لانتهال أكثر من النتاجات الثقافية المنوعة يخلق حالة من وضع بساط الثقافة على محك سهل يطل على المحيط الخارجي للإنسان بروح معنوية عالية ، فان من أهم تقنيات المعرفة هو صناعة الموقف الروحي مما يحدث حولنا الذي غاليا ما نكون غير متيقظين له . فالعالم اليوم و قد دخلت البشرية إلى مرحلة الألفية الثالثة ، فان ما يزيد من وتيرة المثقف الذاتي عن المرء هو اتخاذه ممن صمدوا على المواقف الإنسانية العادلة ضد مناوئيهم السلطويين ، و لعل النظر إلى قائمة المثقفين الشهداء الذين قضوا في العالم تظهر حقيقة واقعة أن السلطات الحاكمة في النظم الشمولية كانت تخشى من فئة المثقفين ما لا تخشاه من جيوش جرارة ممكن أن تشن الحروب ضد بلدانها .
و الحقيقة أن الإنسان يبقى حائرا أمام إنسان مثقف لم يكن قد انتهل من الدراسة المقررة شيئا كافيا ، حيث أن عظماء الكتاب و الفنانين الذين يشاد فيما حققوه من إنجازات حضارية لم يكونوا أكثر من خريجي المرحلة الدراسية الأولى ، و لعل هذا ما جعل بعض الحكومات في العالم ترفع من شان هؤلاء غير الأكاديميين في نتاجاتهم الأدبية أو الفنية ، و من خلال حواراتهم الثقافية أن يمنحوا شهادات " دكتوراه فخرية " اعترافهم برقي مستواهم ، و تلك ومضة في تقدير المثقفين الذاتيين " أي غير الأكاديميين " الذين غالبا ما يكون تأثيرهم التربوي على الآخرين من المحيطين بهم أو المتابعين لنتاجاتهم ، ومنها أحاديثهم حول أمور الحياة ظاهرا جدا ضمن صياغات الكلام و التطلعات لديهم .
إذن فان مسالة امتلاك الإنسان الثقافة الذاتية يبقى أمرا مرهونا دون آخر أو على فئة من الناس دون الأخرى ، لان جوهر ذلك الامتلاك ينطلق من الرغبة الذاتية القوية للإنسان بحيث لا يجد نفسه إلا و انه قد أصبح بعد سنوات من التجربة و الانتهال من الأفكار و المبادئ و التجارب و الأحداث المعززة مواكبا لما يخاض من نشاط يعزز إنسانيته .